الثلاثاء، 3 يناير 2012

ما بين الاه واللذة (الحلقة الاولي)


لاح الطريق أمامه طويلا وبدا كما لو أن لا نهاية له .
إنه يقود دراجته في خفة ومرح علي الأرض الترابية ينظر للأفق العالي حيث يري شعاع الشفق الجميل يغوص بين تكتلات الاشجار العملاقة في البعيد.
وتطرب أذناه أصوات الطيور التي تسافر في أسراب كالظلال هناك بين أشعة الشفق الحمراء ,وسحابات رقيقات تناثرت في أرجاء السماء ,قد بدت بلون برتقالي هادئ جذاب .
هناك سحب من الغبار تتعالي خلف إطار دراجته الحمراء تبدو وكأنها جموع قد وقفت تودعه ,بينما مضي في طريقه باسم الثغر مرح بشوش يتخطف نظرات متلصصات لأشجار الصنوبر الجميلة التي أرتصت علي جانبي الطريق وكأنه يري فيها ما يدعو للأبتسام .
وكأنها تحوي شيئا بسيطا جميلا لا يراه سواه.
هكذا قد اعتاد أن يري الحياة دوما ما يستشرق فيها للسعادة شمسا وإن بدا الفجر بعيدا.
دائما ما يشتق بين شعاب الجبال القاتمة طريقا يسيرا للبسمات كي ما تصل إلي ثغره الجميل فتتوجه كهالة القمر .
مرت دقائق قليلات وهو علي هذه الحال .
ولكن يبدو أن رياح الفكر قد داهمت اشرعته بذكري مريرة فأنقلب مرحه عبثا ,وتجهم وجهه ,وأنقلبت بسمته الصافية العذبة إلي تكدر وحزن ,ولاحت من عينيه صورا من ماضي قريب.
إنه ذلك المشهد الذي واتاه فجأة كما يباغت المجرم ضحيته ,أو كما تفاجئ الضارية فريستها .
بدا المشهد في مقلتيه كما الصور تتوالي علي الشاشة العملاقة.
حديقة خضراء شاسعة أطلق فيها عنان مقلتيه فلم يدرك سوي الاشجار الخضراء والعشب الجميل , وسور حديدي في البعيد تدنوه بركة زرقاء صافية تتلألأ عليها أشعة الشمس .
هكذا أبتسمت عيناه لذلك المنظر البسيط البهيج .
ووقف منتصبا يحمل بين يديه كتابا يحتضنه بين ذراعية كفتيات المدارس العذاري ,الخجولات, بقميصه الزهري المرح البسيط وبنطاله الجنز الازرق وقد تهاوت اشعة الشمس علي بشرته البيضاء تعكس لون عينيه الأخضر ,وتتلألأ مع خصلات شعره الذهبية القصيرة.
بدا كتمثال جذاب يزين وسط الحديقة البسيطة البهية .
هكذا لاح  في عيون المارة المبتسمون .
ثم تقدم ناحية إحدي الاشجار العملاقة وجلس متكأ علي جذعها وقد أظله ظلها الرقيق.
ما إن أحس بلطف الظل حتي عاد ثغره باسما كما اعتاد.
وراح يطالع كتابه بين النسمات الرقيقات وعبق الزهور الذي يملأ المكان .
وإذ به وهو يطالع كتابه في صمته وهدوءه تراوده بسمات سريعات ,فيبدو ان الكتاب يثير حس فكاهته العالي .
وهناك علي إحدي الارائك الخشبية أمامه ببضعة خطوات كان رجلا يبدو من ملامحه انه في مقتبل الثلاثينيات بوجه بسيط الملامح , شعره الاسود الناعم القصير وأنفه الصغير وعينيه اللتان تختبئان خلف نظارته السوداء.
فمه ذو الشفتان الرقيقتان اللتان تتبسمان كلما رأي ذلك الفتي تحت الشجره يبتسم بدوره .
مر الوقت متهاديا مع الشمس التي مالت نحو الغروب .
وإذ بالرجل يقوم من مجلسه تاركا حقيبته التي تحمل حاسوبه المحمول علي الاريك.
فأنتصب جذعه ليبدو رجلا يملأ العيون هيبة .
وتقدم نحو الفتي بخطوات واثقات ووقف أمامه .
فلم يحرك الفتي رمشا ,وظل يطالع كتابه بإهتمام .
فتنحنح الرجل وقال : مرحبا ..........
وضع الفتي يسراه بين صفحات الكتاب وأغلقه بيمناه ,ونظر رافعا رأسه نحو الرجل وما ان التقي شعاع عيني الرجل بتلك العيون الخضراء حتي غلبت الفتي بهجة غامضة وابتسم بدوره بسمة عريضة بدت بلهاء......مرحبا سيدي :هكذا رد الفتي .
ثم أحس ببسمته البلهاء تكاد تنفجر من بين فكيه فأسرع ينظر للأرض خجلا.
فجلس الرجل وقد أثني ركبتيه إلي صدره وهمس : أراك تطالع ذلك الكتاب بإهتمام وصراحتا ..... لم أتمكن من منع عيناي ان تلحظا فمك وقد زارته بسمات هادئات تمرمرور الكرام .... فأي كتاب هو هذا؟.
نظر إليه الفتي وقال : الزواج الابيض ... إنها رواية رائعة.
ثم لمح عيني الرجل البنية اللون الحادة النظرات تطالع عينيه في إعجاب وقد تحركت شفتاه قائلا: حسبه لو كان الزواج الاخضر كما عيناك لكان أجمل .
فإذ بضجكة منتشية تنطلق من بين فكي الفتي ,وقد أصابت الرجل بصدمة كالرعد أنقلبت لها ملامحه .
لقد أبرزت تلك الضحكة العالية جانب صاخب ,قوي ,حاد ,وجرئ في شخصية ذلك الفتي الذي أرتسم امامه ملاكا طاهرا ,رقيقا ,وأكثر هشاشتا من تلك الاوراق الصفراء الذابلة التي تتساقط من أشجار الحديقة في الخريف .
إلا ان الصدمة العنيفة تلك لم تكن إلا سبيلا جديدا لقلب الرجل جعل الاعجاب يحتمل مساحة أكبر.
وتشجع الرجل وجلس بجوار الفتي ونظر إليه ومد يده إليه وأبتسم : أنا (حازم درويش) ....أستاذ طب العيون جامعة عين شمس .
فتحركت يد الفتي في هدوء رخيم حتي أحتضنت كف حازم وتبسم ناظرا إليه :
وانا (المراهق المتناقض) طالب ثانوي عام مدرسة الجامعة الثانوية ,الاول علي مدرستي عامين علي التوالي ,ثم ضحك ضحكتا هادئة عذرية .
-         رائع...... يبدو أنك فتي مجتهد .
-         شكرا يا سيدي انا أقوم بواجبي لا اكثر.
-         ولكن الدراسة في تلك المرحلة غاية الصعوبة ,فهل تجد وقتا للقراءة التثقيفية؟
-         دراستنا مفصلة جدا وتعتمد بشكل جذري علي الحفظ والسرد اكثر من الادراك والفهم ,فلو توقفت عن المطالعة الخارجيه سيعتاد عقلي علي ذلك الخمول الذي نتعلمه في مدارسنا.
-         عندك حق .............
كليمات خرجت بسيطات من بين شفتي حازم إلا أن إعجاب خارق تمالك روحه من الداخل.
ثم عاد يقول :إن ملامحك يا عزيزي لا تبدو مصرية.
قهقه الفتي :ملامحي نرديه إلي حد ما خاصة شكل الذقن المسنن ,لعلي اعود إلي نسل فرنسي من هؤلاء الذين بقوا في مصر بعد الحملة الفرنسية أو قبلهم من ظلوا في دمياط أيام حملات الكونت (دارتوا) وغيره.
ولربما كما قالت (شيرين عبد الوهاب) *مشربتش من نيلها ؟* ..... ومن يشرب من مصدر التلوث هذا .
فتعالت ضحكة مرحة بين الاثنان.
أشار حازم ناحية الاريكة بسبابته وقال:
لحظة سوف أحضر حقيبتي لنجلس هنا معا.
- حسنا.........
نصب جسده وتحرك أمامه بذلك الجسد الرشيق ,الممشوق ببنطاله الجنز الازرق وقميصه البنفسجي ذو الاساور كلاهما التصقا بجسده فكما لو أن رب الاغراء بنفسه يتحرك علي ساقين وله جزع مقسم بعناية بارعة.
فمالت رأس الفتي علي كتفه وسرح وهو يطالع جسده يتحرك في إغراء وكأن الدنيا تهاوت من حوله وظل وحيدا معه ,وهناك ضباب أزرق يتهادي حول حازم بصدره العريض الفسيح الذي برز مشعرا من بين أزرار قميصه التي أسبلها .
وفمه الرقيق الجميل المتبسم  ,وجهه المنير يقترب ويقترب ...... وفجأة شعر الفتي بجسده يهتز وصوت حازم يقول في مرح: ... عزيزي اين أنت؟
فأفاق الفتي  ليجد حازم يهز منكبيه برفق وعلي وجهه علامات تعجب :
مالك تبدو سارحا في الملكوت ؟ .....فيما جال خاطرك؟
تلعثم الفتي لبرهة ثم أسهب: لا شئ فقط بعض المشاهد من روايتي الجميلة .
- أها رائع فأخبرني بما رأيت؟
عاد التلعثم لشفتيه لكنه أدرك نفسه للحظه وقال : البطل يقف بجوار حصانه .
-         إذا فلقد مالت رأسك تتطلع صدري وقد كنت تري فيه البطل أمممممممممم .....أم كان الحصان ؟.....سأل حازم في مرح وخبث.
وأرتسمت ملامح الخجل علي وجه الفتي واحمر جبينه وكاد يصبح لونه بلون التفاح البري.
فأسرع حازم يربت علي ظهره : أنا أمارحك عزيزي....... وحتي إن كنت لا أمازحك ألسنا أصدقاء ؟....... وهل يخجل من بعضهم الاصدقاء؟
-         أصدقاء؟؟؟؟؟ ...... ويحك سيدي ما بيننا مجرد لحظات وكلمات ولربما بسمات قليلات...... لا تستهين بتلك العلاقة العظيمة .... فتلخصها بيننا وتربطنا بها ...... وما بيننا من شئ يربطنا .... ويحك قدس المقدسات .
-         عذرا ما كنت أقصد .... ومازلت أقدس مقدسات الصداقة.
ثم صمت برهة إذ بدا يجمع كلماته وينظم أفكاره ,ثم أسهب :
لكني أردت فقط لو أوجد شيئا بذاتي, شيئا يحملنا لشاطئ الصداقة عابرا بنا بحر التعارف .
وهنا تعاركت أفكار عديدة في ساحة عقل الفتي المراهق وأستثارت الحرب هناك أوزارها فتعالت أصواتها :
ياله من خبيث ,ماذا يريد؟..... لماذا يسعي ليكون هناك شئ بيننا؟... حسبه أن يكون من هذا النوع .... لا ,لا يبدو كذلك.
ولما لا نحن لا نحكم علي الشخص من مظهره .
أه ....... ما حكايتك ؟..... لكني سأسايرك .
هذا ما جال في خاطر الفتي ,وما اثقل ساحة عقله بحرب ضارية من الافكار .
إلا وانه لا يُرهب ذلك الفتي شيئا كهذا.
إنه لا يبتعد كلما داهمه الخوف بل إن ذلك يحفزه للإنغماس في المغامرة ,وإكمال الطريق للنهاية.
وهذا ما حدث حينما تبسم في وجه حازم قائلا : ولما لا أنا أعشق الروابط .
هكذا تبسم حازم وجلس علي العشب الاخضر بجوار الفتي وأتكأ علي الجزع وأطلق العنان لاسترخاء عميق.
فبادره الفتي بسؤال : كم عمرك يا دكتور ؟
-         أولا أنا حازم فقط ولست دكتور ... ثانيا أنا في الثامنة والعشرين .
-         أها ... لكني ظننتك في أوائل الثلاثينيات ,واحد او أثنان وثلاثون .
-         لربما من تلك الشعرات البيض ؟
-         كلا إنهن معدودات لم ألحظهن أصلا. إنه ذلك التوتر الذي يبدو حول عيناك ,وتلك الحكمة والعمق الذي يرتسم في سواد جفونك التي تبدو وكأنها مخطوطة بالكحل .
-         اه ..... لربما التوتر ناتج من ضغط العمل ... مهنة الطب معقدة وقاسية بعض الشئ ..... أما من حيث سواد ما حول عيناي المكحلتان ,فلا أدري إذا ما كان هذا غزل صريح أم تعليق تشخيصي ؟.
قالها وهو ينظر لعيني الفتي ويبتسم بسمة ساخرة بسيطة .
-         ه ه ه ههههههههه ... يالك من واثق في نفسك سيدي ,أنا فقط احب هذا الخط الاسود الرقيق الذي يرسم عيناك , يقولون انها حكيمة تلك العيون التي يلفها السواد .
-         ويقولون أيضا اننا يجب أن نحذر العيون الملونة .
-         اتري فيها ما يخيفك ؟
-         كلا.... إنها فقط تبعث علي الراحه والسكون.
-         إذا أخشي عليك .
-         ومما تخشي؟.
-         اخشي أن تأسرك العيون الملونة وتهيم فيها حتي تعجز عن التحرر ,وتفقد فيها سلطتك.
-         يمكنني أن أفعل ذلك ,بشرط ان تستحق فتخلص وتظل ,انا أبحث عن حب يكون مستعدا للبقاء والاخلاص , عنده العزيمة للتحدي والحرب في سبيل ما يربطنا .
-         إنك تريد حبيبا كالشمس .
-         وكيف يكون كالشمس ؟
-         مخلصة لنا هي الشمس, تغادرنا كل مساء ولكنها دوما تعود إلينا ,أنا أودعها كل مساء بحزن وألم ولكن أنتظرها كل صباح دون شك في شروق جديد... هي لا تخون أبدا وإخلاصها سرمدي .
أما القمر فهو جميل بهي ولكن ما أقدره علي الخداع والهجر والرحيل والغياب....
ونظر بعيدا وهو يقول تلك الكلمات وقد سكنت عيناه اراجيز من الحزن الثقيل.
هذا ما رآه حازم في ملامح الفتي الحزين .
فأستطرد قائلا : وهل أحببت قمرا من قبل.
-         كل احبابي كانوا أقمارا .....
قالها ونظر للعشب الاخضر حزينا قاتما .
وشعر بيد حازم ترفع وجهه من ذقنه برقة ,وقد امال وجهه ناحيته وتأمل عيناه الحزينتان فرأي فيهم شيئا غريبا ,هو خليط من الحزن والشغف والرغبة والهدوء ,وقبل أن يترجم الفتي تلك النظرة الناعمة المستكينة شعر بشفتي حازم علي شفتيه وغاص في قبلة ظن انها في روايات الزواج الابيض فقط.
فأنسابت مشاعره ,واستسلمت اجزاءه وسقط كتابه من بين انامله وأحس بالوجود يتهادي كدخان من تبغ مشتعل.
وفقد الاحساس بالكون من حوله........... فقط انسدلت جفونه علي عيناه وشعر بالقبلة تحتضنه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق