بردٌ قارصٌ يقتص من جسده العاري المسكين ، وتلك الظلومات المطبقات اللاتي يغطين أرجاء تلك المدينة مع الرياح القوية التي تضرب النوافذ والابواب فتجعلها ترقص كرقص فتيات المقاهي علي النغم الصاخب .
ابواب ونوافذ دور قديمة ، بالية ، مهدمة ، موحشة ، خالية ، من السكان ، يغطي اطرافها رعبٌ عظيم قد دب في أطراف الفتي المسكين الذي وقف يخطو بعجز وهوان علي الارض المتربة ، تمزق قدماه تلك الحصي القاسية .
امتدت به الخطي ، و جال في المدينة دقائق قليلة لم يجد فيها سوي الخلو والوحشة والاضواء الخافتة التي يبعثها القمر المطفأ من بين شقوق الغيام الاسود .
وإذ به يشعر بشئ يجذبه نحو الشمال او الجنوب .. كلا ربما كان الشرق ... ، لا لا أظنه الغرب .
لا يهم وما أدراني بالجهات ففي ذاك المكان المقفر المخيف ، يكفي أن يشعر بهذا الرابط يجذب فؤاده نحو تلك الجهة فيدنو منها ويخطو ويخطو
حتي يري باحة عظيمة محاطة بسورٍ قصير و في مقدمتها بوابة خشبية عظيمة مفتوحة علي مصراعيها
تقدمت به قدماه حتي رأي في آخر الباحة قصرٌ غريب الشكل .
يذكره كثيراً بكنائس الفاتيكان فتلك القبة أعلاه توحي بالقداسة .
هناك أناسٌ علي ما يبدو يملأون الباحة .
يا لكم تقافز قؤاده فرحاً وجري مبتسماًُ ماداً يده .
كأنه عطشان يبغي الماء ...... ء.
فشوقه للناس ، أي أناس ، اعظم من شوق الظمآن للماء ، شوق من نواحي عدة ، فللشهوة دور ، وللأنس دور وللعاطفة وللمجهول دور . دخل من البوابة فهدأت سعادته حينما أدرك أن الواقفون في الباحة تماثيل عارية لرجال واقفون ينظرون للقصر .
عاد لكآبته مره أخري .
ثم راح يدور بين التماثيل ، كلهم رجال عراة ،وسماء ذوي أجسام جذابة ، لهم صدور فسيحة ، وعضلات بارزة .
عراة بالكامل ، أنظارهم مشدوهة ناحية القصر .
إن المكان مزدحمٌ بهم ، لهم جذوع فارعة الطول لذا هو لا يري ما ينظرون إليه راح يتطلع وجوههم وأجسادهم .... كلهم شاردي الفاه ... يداً متقهقرة والاخري متقدمة أمامهم .
وكذا أقدامهم ، كأنهم يستعدون للجري .
غير أن قضائبهم البارزة تبدو جميعاًَكما لو أنها علي وشك الإنتصاب .
أقترب يلمسها ، شعر بدفئها ودار بكفه علي الجسد حتي لمس شقهم الاخر وطغت يده تتحسسه .
هناك شعر بالحرية ، فهو لا يشعر بالخجل من عراه .
بل كأن عراه واجبٌ هنا .
ها هو يقف أمام القصر .
هناك درجٌ عريض يقود لبوابة عظيمة امامها أربع أعمدة بيزنطية ضخمة .
وأمام بوابة القصر رجلٌ عاري ضخم الجثة ، مفتول العضلات ، ذو شعر طويل منسدلٌ خلف ظهره .
ينسدل بتعرجات رقيقة تبرز ملامحه البسيطة .
هناك مشبكان بحجم الكف مغروزان في كتفيه ينسدل من كلاً منهما قطعة قماش سوداء رقيقة بالكاد لا تظهر من بين كل مشبك ، مسدولة علي جنبه حتي الارض ..... تمتد علي الارض خطوات خلفه ثم تعانق اختها التوءم ليصنعا نصف دائرة تنسدل من ظهره .
فكأنها إكليل زهور يزين شقه الخلفي .
لمس الفتي العباءة ..... ثم هوت يده حتي وصلت لشق الرجل الخلفي فتحسسه وتحسس عضلات بارزات قد ظهرت فيه
ثم هوت لما بين الشقين فغاصت هناك .
فأهتز الفتي ودار للأمام ليلمس قضيبه الهامد هناك .... هذا الاخير كان دافئاً جداً .
إنه يشعر بدفء الاشياء منذ جاء هذا المكان إنه يشعر بنفسه ينتصب ، رأه يتحرك
لكن سرعان ما جذب بصره شئ أخر ، هناك شئٌ يلمع بقوة ، تقدم نحو بوابة القصر .
فرأي تمثالان أخران يبدوان كحارسان علي بوابة القصر .
انهما يرتديان ثياباً طويلة فضفاضة لها قلنسوة تغطي الرأس ، ولهم ملامح حادة ، قاسية ، تبدو غاضبة .
إنه يذكر كيف كان يخاف تلك الملامح ، وكيف كان يصرخ عندما تفاجئه تلك الاشكال .وتدب الرعب في صدره .
لكنه لم يخف ، لم يرتعش ، لم يصرخ صرخته الانثوية الصاخبة ، هو يدرك أنه تغير منذ جاء إلي هذا المكان ولكنه بدأ يخسر رقته ، هدوءه ، استسلامه للكون ، وتعايشه المنسجم مع الطبيعة .
خطوات هادئات ، صامتات الوتر في ممر طويل نحو شئ يلمع ، خطوات ترافقها ، أفكار..... :ء
هل أنسجم يوماً مع الطبيعة ، أم أن مثليته لطالما حالت دون ذلك ؟
، أجل ربما تكون حالت نوعا ما .
ولكنه لطالما اراد التعايش معها.
........... تلك الافكار يصبح صوتها اقوي
اراد الانسجام مع العالم ومع مثليته ......... اراد ان يجد الحب ويعيش معه مخلصاً له دائماًابدا .
لطالما اراد وكثرما اراد ، ولكن كان دوما الحزن والاحساس بالذنب رفيق روحه ونديم ما اراد
كان الحزن اعظم ساقي وكان فؤاده الشارب النهم .
عجبٌ هو لم يشعر أبداً هكذا .
هناك صفاء وهدوء وخليط من السكينة والشغف يترسب في زوايا قلبه
إنه يفقده التناتقض هو يشعر به يتقطر من بين اجزاءه .
إنه كالماء الدافئ ينساب من بين خلاياه .
ويترسب مكانه ندي من السكينة والسلام .
هو لم يعد حزين كما كان ، إن الكون يبدل ألوانه لم يعد ذلك اللون الرمادي والاسود .
إن ألوان القصر تتغير ، جدرانه اظهرت ألوان صفراء مخملية ، وأعلام ذات ألوان حمراء ، أنتفضت ألونها فانتفض لها صدره
حتي أنه بدأ يشتم الروائح ... هناك رائحة تملأ المكان لكنه لا يميزها ، أنه كمن يغيب عن الضوء كثيراً فلا يتحمله في البداية ولا يستطيع تقبله إلا بالتدريج لكنه بعرف هذه الرائحة ، إنها ليست بالرائحة الجميلة وليست بالنتنة ايضاً .... إنه يتذكرها .. فقط لا يستطيع تميزها ... ولكن لما عساه يريد أن يميزها وهو يشعر بدفء هذا السائل الشفاف الذي يغطي الارضية .
يبعث لجسده دفء .. الدفء الذي لم يزره منذ زمن
أنه يستمتع به في هدوء .... ويلمس جسده العاري مبتسماً كأنه يحث ذاك الدفء علي التسرب لكامل جسده
كطفلِ سعيد بدمية جديدة ألقوها له راح يتقافر فرحاً
إنه يقترب من ذاك الشئ الذي يلمع ،إنه يميزه الان .... يبدو كإناء زجاجي صغير علي طاولة خشبية خلفه مرأة متسخة ... خطوات وأصبح أمامهم .
الإناء الزجاجي الصغير ذو الزجاج الشفاف بداخله شعلة نار .. نظر لفوهة الاناء فرأي شعله من اللهب ذات الوان برتقالية وحمراء وصفراء تبعث السرور لنفس الفتي المسكين الذي اشتاق للألوان ومل كئابة الاسود والرمادي
مسح علي المرأة بكفه ... فأزال من عليها الغبار ورأي نفسه فيها ... حالما أنعكست صورة وجهه في المرأة داهمه سرور كاد يفتك بمملكة جسده .
ماتزال عيناه خضراوتان .. وما تزال شفتاه حمراوتان كحمرة الورد الدمشقي ، ماتزال بشرته بيضاء تعكس همسات الضوء التي تتساقط عليها كفراشات عابثات وشعره إنه ما يزال ذهبي اللون يلمع ببهجة وسرور .
يالله كم اشتاق لهذا الوجه .
حمل الاناء الزجاجي الكروي وراح يتطلع بين يديه .
الشعله معلقة دون ما يشعلها ..... هو يتعجب كيف ذاك ؟ ...
قلب الاناء لينظر اتسقط الشعلة ؟ ...
وبالفعل حالما قابلت فوهة الاناء وجه الارض حتي سقطت منها الشعلة .
رأي انعكاس الشعلة الساقطة بهدوء علي صفحة ذاك السائل الشفاف الذي يغطي الارض ويكسو الجدران .. وهنا تذكر ما هذه الرائحة الشديدة التي تملأ المكان ... إنه وقود ... رائحة الوقود ... رائحة هذا السائل الشفاف ...إنه وقود
اتسعت حدقتيه وألقي بالاناء الزجاجي وتحرك مسرعاً كي يجري ولكن أين يجري ، كان دوماً يخشي الزمن دوماً يفكر كيف أن الزمن سيمضي عليه ويقابل موته ... وأن الحياة يوماً ستفني ... ولكن كان الخوف دوماً مرضي ينغص عليه معيشته ...
في هذه اللحظة ضاع كل خوفه المرضي من الزمن
وضاعت عادته الذميمة في حساب الدقائق وتقدير اللحظات ..
لم يفكر سوي في الهرب
لطالما تخيل انه في موقف كهذا سوف يقف ساكناً مستسلماً منتظراً موته الآليم .... من منطلق أنه من المنطقي انه لن يتمكن من الفرار
لكن كل هذا تلاشي في لحظة ادراكه ان الارض والجدران مغطاة بسائل سوف ينشب لهباً يسلب روحه باعثاً الآلم في كل خلاياه .
خطوة واحدة خطاها في جزء من الثانية أثقلته فيها توقعات الآلم ، فخوفه ابداً لم يكن من الموت .
إنه الآلم الذي يرافق الموت هو الذي يخيفه ويرعبه .
لم يكمل خطوته تلك حتي انتشرت السنة اللهب في كل مكان .
وانفجر الوقود لبرهة وقد ملأ كل الزوايا والاركان
اللهب يملأ القصر كما الماء الذي يملأ كوب .
قد بدا منظر القصر ذو الارتفاع المهول وذو النوافذ المتعددة والمتسعة كمصباح صغير مضئ باللهب في ليلة ظلماء
بدا الحاضرون في ساحة القصر كمن يشاهدون الاحتراق
يرفعون ازرعهم كأنهم يحاولون مد يد العون
افواههم شاردة كأنهم مصدومون متألمون مما يشاهدون
هكذا رأهم الفتي المسكين الذي يقف بين السنة اللهب امام نافذة من نوافذ القصر المطلة علي الساحة
بسمة بسيطة ارتسمت علي ثغره .
إنه لا يشعر بالألم .... هو يشعر باللهب يأكل جسده لكنه فقد الاحساس بالالم
فقد اثقله الالم بقسوة لبرهة فقط من الزمن
اللهب يأكل كل جسده وهو لهب شفاف صافي يمكنك ان تري من خلاله تماماً كما تري من خلال الماء
نظر الفتي ليده اليمني واطال النظر إنها تحترق كاوراق الجرائد القديمة البالية ... يصبح لونها اسود وتذبل وتتساقط ومن ثم تتكسر الي اجزاء صغيرة وتتطاير هكذا تطايرت اجزاءه في كل مكان ، هكذا تلاشي الفتي ولكنه ما زال يفكر حتي وهو اجزاء تحلق وسط اللهب ما زال يفيض بالافكار .
إنه يشعر بحرية غريبة ، كأنه لطالما كان سجين والان فقط تحرر ... يشعر كأن اجزاءه قادرة ولأول مره علي ان تذهب حيثما تشاء .
مهلاً إنه يعود ليتجمع مره أخري .
كلا هو لا يريد ذلك لكنه يحدث بسرعة ـ
ضوء ابيض قوي يغمر المحيط واجزاءه تضرب بعضها البعض بسرعة فائقة .
صرخة صاخبة اطلقها الفتي حين تجمع جسدة وغفا الضوء القوي فوجد نفسه في الهواء يسقط من ارتفاع ما .
ما هذه الملابس ؟ ... آه إنها سرواله الداخلي .. تذكر الان ، إنه ما زال يسقط من شرفة هذا الذئب الذي ضاجعه .
ولكنه يسقط وهو سعيد ، سعيد ببسمة بسيطة جميلة علي فاهه ، بسمة لم تطفئها حتي قوة الارتطام بالارض
واغلقت عيناه وغاص جسده في دماه ولا زالت تلك البسمة علي شفتاه
الـــــــنـــهــــايــــــــــــة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق